Friday, September 27, 2019

المقاول عرفة الشواف

حالة من اليأس سيطرت على كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بعد مرور "جمعة الخلاص" على عكس ما يبغون. فلم تكن خلاصا ولم يكن الحشد كما كان مطلوبا أن يكون. سادت حالة من التفاؤل والثقة الكبيرة في أن هذا اليوم، سيكون فارقا وحاسما والسبب الوحيد برايي هو الثقة الشديدة أن خلف الفنان والمقاول "محمد علي" ركن شديد، قادر على التدخل والحسم.

الموقف ذكرني بمسرحية "وجهة نظر"، التي صاغها بعبقرية "لينين الرملي". تعامل كل المقيمين في دار رعاية المكفوفين مع الوافد الجديد "عرفة الشواف" بكثير من الشك في بداية انضمامه إليهم، لكن مع الوقت ولأنه الوحيد الذي أعمل عقله، ظن الجميع بدءا من مدير الدار، مرورا بالموظفين، وانتهاءا بالمكفوفين أنفسهم أنه يرى، حتى كانت الصدمة كبيرة حين اكتشف الجميع إنه كفيف مثلهم وكانوا قد علقوا عليه آمالا عريضة في التخلص من استغلالهم، والحصول على حقوقهم المسلوبة.

هنا يأتي السؤال: هل وراء محمد علي جهة أو شخص ما؟، من الصعوبة بمكان حسم الأمر رغم أن الإجابة واحدة من اثنتين لا ثالث لهما، إما نعم وإما لا. المنحازون للاحتمال الأول، لتصريحه هو نفسه أن هناك قادة من الجيش والشرطة المصريين قد تواصلا معه وأبدو مسادنتهم له في حراكه، وأن في الجهازين هناك شرفاء ملوا من الظلم واستغلال النفوذ، وإهدرا المال العام.

أما لا فقد كان احتمالا ضعيفا عند الأغلبية، عززه السرعة التي تم بها الدعوة للحشد والنزول إلى الشارع، بعد أقل من شهر من بداية كشف جزء من فساد الهيئة الهندسية في قطاع المقاولات فقط، والتي استجابت لها أماكن لا بأس بها تمركزت في محافظات الوجه البحري.

حتى مع تصريحات محمد علي المتكررة، من أنه مداوم على تغيير أماكن إقامته في أسبانيا، خوفا من تعرضه لمحاولات اغتيال، لم تمح من الأذهان وجود جهة ما تعمل معه وتنسق له، وتمده بمعلومات إضافية.

لكن مع انتهاء اليوم ساد الاحباط. الأمر برأيي سببه الرئيسي هو السرعة في طلب الحشد والنزول، الأمر كان بجاجة لعمل ضغط بمدة أطول، لحشد معنوي أكثر، واستغلال لواقع الحال على الأرض أكثر، من استمرار كشف المساوئ واستغلال الشعب ورمي الفتات لهم، في حين أنهم ينعمون بخير البلد ويحتكروه لأنفسهم، كان يجب استغلال تصريحات الرئيس السيسي من استمراره في بناء القصور الرئاسية، في حين زيادة الأسعار مستمرة، والشعب في حاجة لمستشفيات بها كل الإمكانيات، ومدارس ليست مكدسة ولا يجلس الطلبة بها على الأرض، الأمر كان بحاجة لنشر التناقضات والفروق بين ما يعيشه الشعب، والرفاهية التي يحياها سارقو البلد.

كان هناك كذلك غياب تام للنشطاء وثوار 25 يناير 2011، والسبب هو ما أفصح عنه اثنان منهما، وهما "وائل عباس" و"أسماء محفوظ" من السخرية من "محمد علي" كونه فاسدا وتعامل مع الفسدة من داخل المؤسسة العسكرية، ويريد أن يلبس ثوب المناضل وهو ما لا يقارن مع التضحيات التي قدموها.

ليأتي موقف النخبة حيث أبدى أستاذ العلوم السياسية المعتقل حاليا، "د. حسن نافعة"، رفضه أن يتصدى للمشهد السياسي مقاول محدود التعليم والخبرة السياسية، ووافقه "د. عمار علي حسن" و"حسام بدراوي". وغاب عن المشهد "حمدين صباحي" و "د. محمد البرادعي"، والاثنان كانا في مرمى نيران وسخرية المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، مذكرين بما فعلاه تجاه جماعة "الإخوان المسلمون"، في العام الذي تولوا فيه الحكم، مقابل صمت القبور تجاه أداء الرئيس السيسي، وإن كان للبرادعي تغريدات لا تسمن ولا تغن من جوع، لكن ما تصدر "محمد علي" للمشهد قام بتجاهل الأمر تماما، وهنا وجب ذكر موقف الكاتب والروائي "علاء الأسواني" الذي أيد "محمد علي" واعتبره بطلا شعبيا.

أي متابع للمشهد السياسي المصري، لا يخفى عليه تأثير جماعة "الإخوان المسلمون" في التنظيم والحشد، والمنصفون ممن عاصروا الأيام الصعبة وقت ثورة 25 يناير، يتذكرون جيدا وبعرفان أن ميدان التحرير لم يكن ليصمد، وقت موقعة الجمل لولاهم.

وهنا تثار عدة أسئلة:
- هل بقي من الجماعة أعضاء قادرون على التجمع والتنظيم؟
-هل تعمدت الجماعة التجاهل خاصة مع حالة "الشيطنة" التي مورست ضدهم على مدار ست سنوات هي عمر الانقلاب العسكري؟، ومن الجميع على السواء، من المؤسسات الرسمية وأبواقها الإعلامية، وكذلك من رفقاء الميدان على مختلف توجاهتهم، ويكاد يكونوا هم الفصيل الوحيد الذي دفع الثمن دما وتشريدا؟
-هل تصريح "محمد علي" برفض عودتهم إلى الحكم، ووجوب ابتعادهم عن المشهد لمدة خمس سنوات قد تطول لعشر سنوات، كان مدعاه لترك الساحة؟

هم فقط الذين يملكون الإجابة على تلك الأسئلة، ولكن من المؤكد أن حكما عسكريا مستمرا 65 عاما لن يستسلم أو يسقط في يوم أو يومين، نظام له سيطرة كاملة على مفصلات الدولة ومقدراتها، وخلفهم جيش من أصحاب المصالح والمنتفعين، والآكلين على كل الموائد ولن يتركوا كل هذا بسهولة.

ومن المؤكد كذلك أن "المقاول" قد ألقى حجرا حرك به المياه الراكدة، وأحيا أملا، ألقى ببذرة في أرض مازالت خصبة يمكن تغذيتها، والعمل عليها لتتحرك كرة الثلج وتكبر، فقط لو تم العمل مع الناس في الشارع والحواري والأزقة، في القرى والنجوع بالتوعية بما يستطيعون فهمه، حتى يزيد الزخم والرفض لاستمرار استنزاف البلد لمصلحة قلة.

Friday, July 19, 2019

كم احتمال قائم في لحظة واحدة ؟ ... سؤال فلسفي في إطار سينمائي بسيط "حب واحد وحياتان




بداية الفيلم متاح مترجم على عدة مواقع ألكترونية، مهتمة بالدراما التركية سواء التليفزيونية أو السينمائية منها. بنظرة سريعة على الإسم الذي أطلق على الفيلم، وقت مراحل الإعداد الأولى نجد أن الإسم الأول "إحتمال آخر" كان الأكثر ملائمة لفكرة الفيلم. أما "عشق وحياتان" لا يتلائم مطلقا مع القصة. وقبل الدخول في التفاصيل، أجد من الضروري القول أن هناك خطأ دعائي وقع، حين تم الترويج للعمل باعتباره "قصة حب جميلة"، رغم أن قصة الحب ليست هي الأساس ولا الرسالة.

على عكس الفيلم اليوناني "ماذا لو" إنتاج 2012 والمقتبس منه النسخة التركية، كانت الأزمة الإقتصادية التي عصفت بالبلاد في خلفية الأحداث ومحركة لها، أما النسخة التركية فقد جاءت بنظرة فلسفية، وذلك لفارق الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بين البلدين، ناقش العمل مجموعة من الأسئلة: "كم احتمال قائم في لحظة واحدة؟، ما هي المواقف التي تقولون فيها من الجيد أننا كنا هنا؟، أو اللحظات التي قلتم فيها ليتنا لم نكن هناك؟، كم عددها؟" .

"أوموت" مخرج دعاية وإعلان يرغب في الدخول لعالم الأفلام، ويعاني من اخفاقات متتالية لرفض مشروعه ومدان لمرابين بمبلغ كبير، رغم امتلاكه لثروة قيمة متمثلة في لوحات فنية، وشاشة عرض قديمة وأفلام كلاسيكية بنسخها الخام الأصلية. ويعاني على الجانب الآخر مع والدته المريضة بالزهايمر، والتي لا تتذكر من ماضيها سوى خيانة زوجها لها، وتحملها مسئولية تربية إبنها الذي كبر ولا تكاد تعرفه، عاش طفولة تعيسة بسبب غياب الأب، وبكى حين طلبت معلمته رسم عائلته.

يسير الفيلم في خطين متوازيين من حياة "أوموت"، الأول ماذا لو قرر التجول مع كلبه "أوسكار"، والثاني ماذا لو بقي في المنزل وواجه المرابين. في الخط الأول يبدو مسيطرا على مجريات حياته بشكل كبير، وإن كانت تشوبها أنانيته ورغبته في تحقيق حلمه بإخراج أول فيلم. يندمج في علاقة عاطفية لم تكن خطواتها وتطوراتها بقناعة حقيقية منه لكنه دفع لها دفعا، انتهت بالزواج والإنجاب، ويعتقد أنها العائق القوي نحو عدم تحقيق حلمه، وفي أحد مراحل الهروب من الفشل المستمر يخون زوجته.




على الجانب الموازي أو الاحتمال الآخر، هو نفس الرجل انقلبت حياته رأسا على عقب، بعد شجار عنيف مع المرابين انتهى بمحاولة قتله، ويعيش علاقة مع إمرأة متزوجة، يغلب عليها الشهوة، يحياها وكأنه يعاقب نفسه في سقوط يليه سقوط. الإبتسامة صفراء تخفي ورائها بركان غضب لشخص خانته أمانيه. يحاول أن يلملم أشلاءه ويستعيد حياته، وإيجاد حلول لمشاكله المالية، وكانت لحظة موت أمه بمثابة جرس إنذار وإفاقة . خاطبت الطفل الذي تتذكره بألا يحتفظ بألعابه لنفسه. واستمرت محاولاته حتى نجح في العثور على ممول لفيلمه الأول "الرياح"، وبدأت حياته تسير نحو الاستقرار.




رغم البعد الفلسفي وعمق الرسالة والأسئلة المطروحة بلا إجابة، إلا أن الإطار الذي قدم فيه الفيلم لم يكون صعبا أو غامضا، وتلك ميزة قوية تحسب له. الانتقال بين الحكايتين كان سلسا وسريعا دول لحظة ملل واحدة، أو الشعور بالابتعاد عن فكرة العمل والاسترسال.

لم يكن اختيار إسم "أموت" وتعني بالتركية "أمل" عبثا، حيث كان لا يكف عن المحاولات لإخراج فيلمه للنور رغم لحظات الإنهزام واليأس التي تصيبه. كذلك إسم البطلة "دينيز"، وتعني "البحر" وأنها مهندسة معمارية. بأمواجها وعنفوانها وحركاتها الطفولية أحدثت تغييرات جذرية في حياته، كان أقواها أنه عرف معنى الأبوة والأسرة وأنها الأهم وسط حياته المبعثرة.

مشهد المواجهة بين "أموت" و "دينيز" في الكوفي شوب، وعرض التطور الزمني في العلاقة، لخصتها الكاتبتان في عبارات مختصرة معبرة، عالجها المخرج في مشهد وحيد مبدع بلقطات متتالية جمع فيه فصول السنة الأربعة، وهو من المشاهد مع غيرها التي برز فيها بشكل كبير براعة المونتاج.

مشهد قيام "أموت" بحلق شعره يعتبر من أصعب مشاهد العمل، أي خطأ ولو بسيط في التقمص والاندماج سيكون مكلفا. وهو ما أعتبره "ماستر سين" لهذا الفيلم.





تنفيذ مشهد الرسوم المتحركة والرسالة التي حملها كان على مستوى تقني عالي.



الموسيقى التصويرية والأغاني كلا منهما كانا في محلهمها تماما، حتى صوت الرياح والمطر، ولم تكن التغيرات في الموسيقى بين الاحتمالين وبين الشخصيتين حادة.

حين تم الإعلان على إسم بطلة الفيلم "بيرجوزار كوريل" كشريكة ل "إنجين أكيوريك"، كتب كثير من المتابعين ومن جمهور النجمين أنفسهم أن التناسق بينهما صفر، نظرا لملامح البطلة التي تبدو أكبر من عمرها وكذلك لطول قامتها، في حين كتب آخرون عن وجوب الانتظار لحين رؤبة العمل. بينما كانت فرحتى عارمة، فحين يتوافر نص قوي بيد مخرج مشهود له بالتمكن، يضاف لهما ممثلون بارعون فلابد أن تكون النتيجة مبهرة. فقد فعلت الكيمياء بينهما فعلتها وكان التناسق والتكامل عاليين وظهر مدى التفاهم والارتياح بينهما على الشاشة.

شاهدت ثلاثة أعمال ل "بيرجوزار كوريل". ممثلة تفهم معنى المهنة جيدا ومعنى التقمص ولا تعير اهتماما لأنقاتها وجمالها، بقدر العناية بالدور ومتطلباته. لا تمانع في الظهور دون مساحيق التجميل، ولا تمانع في الظهور مهملة الملابس بشعر أشعث. تتماهى تماما مع الشخصية. هي باختصار تجيد الصنعة.

"تليق به الأدوار الصعبة" جملة جاءت على لسان الممثلة التركية المخضرمة "نبيهات شهري" واصفة "إنجين أكيوريك" عن واحد من أقوى أدواره والبطولة الأولي "مصطفى بولوط" في مسلسل "لو أكون سحابة". وهو ما ثبت حرفيا.
"على بيلجين" مخرج العمل صرح بأنه بعد مشهد "حلاقة شعر الرأس" لتصوير الاحتمال الآخر، تغيره مزاجه في الكواليس بشكل كبير. وأضاف أن الدور بمعايير تركيا لا يصلح له سوى "إنجين أكيوريك".

أجاد تماما في إحداث الفوارق المزاجية بين "أموت الأناني الحائر المحبط" وبين "أموت الضائع المحطم". بينما كان الأول ترتسم على وجهه ابتسامة زائفة للسعادة والرضا، والزوج المحب النادم على أخطائه، والأب الحنون. كان الآخر يبتسم مضطرا، معاناته بعد وفاة كلبه، الشعور بالضياع، العلاقة الحسية التي يحياها كعبء يثقل كاهله، حتى ظهر الطفل المختبئ داخل الجسد الشاب لحظة وفاة أمه، لينطلق المارد ويعيد ترميم نفسه بنفسه من جديد.

باختصار كلمة "إبداع" و"عبقرية" لن تضيف جديدا لفنان حريص على التنوع والاختلاف في كل عمل يقبل به، وفي كل شخصية يتحمس لها، وفي كل رسالة يتبناها. يحاول السباحة عكس تيار الدراما التركية وتيمتها التي أصبحت محفوظة لمتابعيها، حتى أنها أصبحت مثارا للسخرية.

مشهود له بالعمق والسلاسة في الأداء معا، تتطاوعه عضلات وجهه في التنقلات بين التعبيرات المختلفة في الثانية الواحدة، لا يحتاج للتعصر أو للانقباض كي تنساب دموعه فتقمصه يكفي لتسيل ببساطة.

ما لم أستطع فهمه هو لماذا لما تشارك شركتي الإنتاج بهذا الفيلم في المهرجانات الدولية؟، سؤال حرت في الحصول على إجابة شافية وفشلت. عادة ما يقال أن أفلام المهرجانات عصية على الفهم لدى المشاهد العادي. لكن هذا العمل جمع بين الحسنيين، فيلم ذو فكرة مع بساطة وإبداع في التنفيذ سهل الفهم.

وتبقى في النهاية رسالة العمل "بدلا من البحث عن السعادة، اتركوا أنفسكم لمسار الوقت".